أنا آسف ولكن ابن عمك سعيد مات اليوم"
"سعيد.. كيف مات؟"ه
"انفجرت سيارة مفخخة أثناء مرور حافلة نقل عامة في الشارع"
أغلق الخط دون تفكير وسارع بالاتصال باشقاءه علي وكارم وشريف ليقوموا بالاجراءات المناسبة
واتصل بشقيق ابن عمه والذي يعيش في بغداد أيضا
كان سعيد أقرب اصدقاءه تربيا معا وكانا يتشاجران كثيرا أثناء طفولتهما بسبب والدة زياد الشيعية
ولكنهما سرعان ما كانا يتصالحان ويذهبا معا للعب كرة القدم في ساحة خلف مسجد الامامين العسكريين
وكان سعيد يسمح لزياد بأن يجلس بجواره وهو يرسم القبة الذهبية الجميلة للمسجد
ويحرص زياد على ألا يتعرض أحد لسعيد أو يسخر منه لانه السني الوحيد في الفريق
ترك زياد زوجته التي تزوجها قبل 5 اشهر بدون حفل زفاف
بعد أن قررا ألا يقيما حفل بعد التفجير الذي وقع أثناء حفل زفاف حسين زميله في العمل والذي أودى بحياة 20 شخصا من حضور الحفل فآثرا فرحة صامتة مضمونة بدلا من كارثة صاخبة محتملة
استقل زياد الحافلة العامة وتوجه إلى مستشفى عام في منطقة الكراده حيث المشرحة العامة
كان كثير من الركاب يثرثرون عن طبيعة الأحوال والمعارك الدائرة في البلاد والامريكان والزعيم الصدر وصدام الذي راح
بينما كان زياد شارد يمسك في يده سبحة قانية اللون كان سعيد اعطاها إياه في عيد ميلاده الماضي
فقد اهدى سعيد سبحا قانية لزياد صديقه واشقاءه خرزها أحمر قان وفي نهايتها تدلت حروف فضية تشابكت بكلمتي الله العراق
وصل زياد إلى المشرحة .. وسأل بعض العاملين عن سعيد أو "جثمان سعيد" على الأصح
فأشار أحدهم بدون اهتمام لمؤخرة المبنى عند نهاية سور
كان يحيط بما كانت قديما حديقة اما الآن فصارت مجرد مساحة جرداء من التراب يتحول طينا ان أمطرت
فلم ينتبه سعيد .. ربما لانه توقع اهتماما أو احتراما اكثر من ذلك لحرمة الموت ومصابه الأليم
ولكنه لم يدرك بعد أن الموت حادث عرضي عادي في أرض العراق وان "جثة أخرى" أو "رقم جديد" ليس حادثا جللا يستحق الاهتمام فأعاد السؤال على العامل ..فأشار له لنفس الاتجاه دون حتى تحويل بصره عما كان منشغل به
وقال له (رقم 45)ه
وسار زياد إلى خلف المبنى حتى وصل بجوار السور حيث بضع شجيرات ميتة وعدد لا بأس به من الجثث بجواره نائحون وباكون بدوا في اللون الأسود كصورة مكررة تم نسخها ولصقها بضع مرات على الأرض
وبجوار السور رأى زياد تلك القماشة البيضاء المتربة تغطيها بطانية صفراء باهتة تغتالها مساحات حمراء من الدم وضع عليها علامة بالقار الأسود (45). فاقترب زياد من العلامة السوداء وهو يعلم ان كل خطوة يخطوها هوة يلقي بها عمره الماضي
وبيديه رفع قطعة من القماش ليكشف عن وجه لم يعرفه للوهلة الأولى..ه
فلم يرى سوى وجه الموت الجاسم فوق وجه سعيد
كمن يرتدي قناعا سخيفا في عيد لن تحتفل به العراق لوقت بعيد
فراح بيديه يمسح وجه سعيد المسجى أمامه عله يزيح عنه القناع المخيف
تذكر زياد كيف كان يحب سعيد ارتداء الأقنعة السخيفة للوحوش والغيلان في ليالي رأس السنة الميلادية
ظل زياد جالس بجوار سعيد لساعات لم يدرك حسابها .. يحمل وجهه بين يديه ..ه
تماما كما كان يفعل وسعيدا وهما صغيرين حينما كانا يلعبا (الغميظة) كما يسميها أهل العراق ..
فيختبئ أحدهما ويبحث عنه الآخر .ه
ولكن اليوم احدهما يهرب من وجه الموت في وجه الآخر
وبمغيب الشمس .. صار لزاما ترك ساحة الموتى لقادمين آخرين
وطلب إلى زياد العودة في اليوم المقبل حاملا أوراق ثبوتية لاستلام (الجثة رقم 45)ه
وعلى باب ساحة الموت كان القادمون في الطريق
ناقلة أخرى تعبر بالموتى من جانب لآخر ..كانوا تلك المرة ضحايا تفجير استهدف دورية عسكرية أمريكية
وآخر في انفجار قنبلة على جانب الطريق
وآخر في حادث تبادل لإطلاق نار بين قوات أمريكية ومسلحين
ولكن لضيق الوقت وقلة العربات .. أخرجت السلطات ثلاث عربات لجمع الجثث من الطريق وحتى مشرحة مستشفى الكرادة
ومن احدى العربات تدلت يد تعلقت بها
سبحة خرزها أحمر قان وفي نهايتها تدلت حروف فضية بكلمتي الله العراق كساها لون أحمر آخر
فتجمد زياد بلا حراك
لم يكشف عن وجه الجثة تلك المرة ..
ولا وجها جثتين آخريين وضعا معها
كان يعرف الوجه الذي سيكشف عنه مسبقا
حتى انه لم ينتبه لقول احد العاملين لاخر
ضع هؤلاء معا ارقام 75و 76 و77 فهم كما أبلغونا اشقاء كانوا في سيارة واحدة
وجلس على بابها ..ه
منذ أكثر من عامين
لم يبرح زياد ذلك الباب
يستقبل وجها واحدا مألوفا ..ويودع الاحباء كل ساعة