يوم بارد حقا
شديد البرودة
ازحت عني أكوام الاغطية الدافئة وقمت بخطوات متثاقلة خارج غرفتي بينما اقدامي تلامس الارضية الباردة وعيناي نصف مغلقتين اتمتم بكلمات غير مفهومة ألعن العمل ومتاعبه التي تتنزعني من احلامي الدافئة إلى قلب الشارع في مثل هذه الساعة المبكرة
:ساقية أولى
كل شيء يبدو روتينيا بصورة تدفع إلى عدم الانتباه. تقوم بما اعتدت القيام به بصورة آلية باستثناء البرودة القارصة التي تشعر بتسللها بلذة عجيبة داخلك انطلق إلى الشارع مسرعة بعد ان ارتديت معطفا ثقيلا وكوفية وجوانتي من الصوف اركض باتجاه سيارتي ..
انزعج من اضطراري الانتظار حتى "تسخن" تأتي إلي ابنة البواب ابنة الستة اعوام مسرعة ابتسم في وجهها ابتسامة معتادة بلا اكتراث حقيقي واقول لها كعادتي "اندهي بابا بسرعة يا (ك) علشان مستعجلة" يأتي والدها حاملا دلوا مليء بالماء ومنشفة .. يقوم بمسح زجاج سيارتي وانا استعجله
لا اذكر ان كنت شكرته ام لا ولكني انطلقت بسيارتي بعد ان انتهى مباشرة
:ساقية تانية
توجهت إلى المكتب قمت ببعض الاعمال يوم ثقيل مليء بالاخبار .. الحصيلة حتى الان بلغت 390 قتيل
في 6 انفجارات ببغداد
واشتباكات في غزة
وفيضان في اندونيسيا
حادث مروري في حافلة تقل تلاميذ في مدرسة ابتدائية باقليم جوانجشو الصيني
مجرد يوم عمل عادي زميلي الجديد في العمل يسألني (الخبر بتاع الانجفار الاخير بتاع بغداد تفتكري مهم)ه اجاوبه بابتسامة وانا انظر إلى شاشتي
IF it's not dead, it's our buisiness my dear
if it's not dead it's not important
يجيبني (ده مات فيه خمسة من اسرة واحدة)ه
(لا عادي خمسة بس ده كلام فارغ الخبر ولا يستاهل)ه
:ساقية تالتة
تليفون من (م) و(أ): ميعادنا النهاردة زي ما هو معاكي عنوان مكان التصوير؟ه
(ايوة ايوة ما تقلقش بس خلي بالك النهاردة التصوير في مكانين يعني يوم طويل)ه
انطلق بسيارتي تعطلني إشارة شارع البطل احمد عبد العزيز بالمهندسين طفل رث المنظر يقترب من سيارتي فاسرع باغلاق الزجاج (مش ناقصة وجع قلب وزن)ه
لوهلة اشعر بوخزة صغيرة أسارع في لفظها (انا فيا اللي مكفيني بجد)ا
تنطلق السيارة التي تجمعنا وننطلق للمكان الاول تصوير حوارات مقابلات ابتسامات رسمية مجموعة كبيرة من الاطفال (أ من فضلك انا عايزة شوت كويس هنا وهما بياكلوا وبيلعبوا اوكيه الولد ده شكله مميز ركز عليه)ا
(خلاص يا جماعة المكان التاني في الشارع .. معانا شوية عيال من اطفال الشوارع)ا
:توقف مفاجئ (إيهاب)
نقترب من مجموعة من الاطفال تم الاتفاق معهم مسبقا من قبل مشرف احد الجمعيات إيهاب واحمد عبد الحميد وطارق يجلسون إلى طاولة في الشارع مع المشرف يضحكون ويأكلون لا اعتقد ان إيهاب يعرف ان وصفه الوحيد الذي يعرفه به الناس هو (طفل شارع)ء
ولكن كل ما يعرفه انه يعيش في الشارع منذ ان كان في السادسة من عمره وهو الان في الرابعة عشر حضر ايهاب امام الكاميرا يرتدي تي شيرت قطني لونه غير معروف من كثرة اتساخه ممزق يظهر اجزاء من كتفه وظهره
( بليز يا ( أ) الولد لازم يقف بعيد شوية .. افرض عمل اي حاجة مش متوقعة وبعدين هيتصور ازاي ده لونه اسود خالص انا عمري ما شفت كمية القذارة دي على جسم بني آدم من قريب )ء
اقترب من إيهاب في حذر .. ولا ادري لماذا اقتربت اصلا وبعيدا عن الكامير جلسنا إيهاب وانا نتكلم كثيرا
لم اشعر ببرودة الجو
ربما لارتدائي ملابس ثقيلة
وربما لانشغالي الشديد
ولكني ادركت لحظتها كم كان الجو باردا حيث كان إيهاب يرتعد امامي من البرد رغم ابتسامته التي ظل محافظا عليها حتى غادرنا
لا اعلم كم مر من الوقت ولكني اعلم تماما ان ما سمعته كان مؤلما لدرجة اوقفتني عن التفكير
إيهاب: ما هو انا اصلا من ساعة ما انا كنت عندي 6 سنين وانا في الشارع ابويا طلق امي والاتنين اتجوزوا ومش عايزني معاهم اصلا والعيال في الشارع الاول كانوا كويسين
(بنام في اي حتة.. يا استاذة يعني مش مهم.. هو انا بروح عند اي بياع سريح وانام جنبه في فرشته او لو شوية بياعين مولعين نار بيخلوني انام جنبهم)ا
(لا مش بنام في الجامع عشان الحكومة بتيجي تلمنا من هناك وكل يوم العساكر يمسكونا نروح نمسح القسم ونمشي)ء
(مش عاوز اروح لابويا ... كده.. من غير اسباب)ا
(لأ الشارع كويس... التعاوير دي... لا لا.. والنبي ما خناقات ودي مش ضربة بشلة والنعمة.. ده انا وقعت على شريط القطر وانا بجري من الحكومة)ا
!!!!!
(لا ما انا مش بحس قوي بالبرد.. لا يا استاذة ده انا برتعش كده يعني..)ء
المشرف (يا إيهاب.. بردان ..روح اجري لحد آخر الجنينة دي وتعالى)ء ي
يركض إيهاب كما قال له المشرف ويعود لنكمل حديثنا بينما لم اتحرك من مكاني
(الحكومة بتمسكنا كتير بس بيمشونا تاني لما بتلاقي اننا معندناش سوابق بنمشي)ا
(لا انا باكل هنا في المركز المتنقل بيوزعوا علينا اكل... بس انا في العادة يعني باكل من الزبالة)ء
(يوووه ده انا بلاقي اكل كويس.. آه والنبي.. طب عارفة.. انا مرة لقيت سمك مشوي م الكبير ده.. كلت واحدة وحوشت الباقي)ء
(وساعات كتير مش بنلاقي اي اكل في الزبالة بس احنا لا مؤاخذة بنشد كلة والواحد بقى اييييييه بيبقى فل.. ومابجوعش كتير)ا
(آه دي احسن مزاج الكله دي... كل العيال اصلا بيشدوا ...اصلها بتدفي)ا
(معنديش بطانية.. العيال ممكن يقتلوا بعض عليها اصلا.. مرة واحدة ست جت ووزعت على شوية عيال في السيدة بطاطين ومشيت وبعدين العيال طحنوا بعض من الخناق عليها بالسكاكين والمطاوي ... والعيال الكبيرة اصلها غلسة وبتاخد كل حاجة)ا
(انا معايا موس وبسقفه بس مكتش زمان بعرف استخدمه وكنت بعور نفسي)ا
(معرفش المشرف قاللي يا اما هموت م الكله يا اما هموت مقتول.. هي هي .. عادي يعني يا استاذة بقى مش مشكلة)ا
ينطلق إيهاب عائدا إلى الطاولة لتناول الوجبة التي يتم توزيعها بينما لم اتمكن إلا من متابعته وتأمل ملامح وجهه لاكثر من نصف ساعة بينما اختفت اجزاء من ابتسامته بينما يحاول في حرج بالغ ان يأكل بأسلوب مهذب لان (التلفزيون بيصور) بينما يجد صعوبة بالغة في الامساك بالشوكة
لم يتحدث إيهاب معي ثانية..وربما بل واكيد لن اراه ثانية.. بل ان المشرف المسؤول عن حالته لا يعلم ان كان سيقابله ثانية ام لا ... فهما يتقابلان دائما صدفة لم اتكلم كثيرا في طريق العودة.. ا
ولا اعرف لماذا تذكرت (ك) الصغيرة وملابسها البسيطة
وانها كانت تجري حافية في الشارع في ذلك الصباح البارد
وان والدها كان يمسح زجاج سيارتي بماء بارد جدا بينما يرتدي قميصا صيفيا خفيفا
وذاك الطفل الذي كان يحاول الاقتراب من سيارتي وكيف كان يقوم باشارات وضع اصابعه في فمه دليل على انه جوعان
لا اعرف حقا لماذا تذكرت كل هذا؟ا
بل لماذا تخيلت منظر الام التي فقدت خمسة من أفراد اسرتها في انفجار واحد في احد شوارع بغداد؟ا
ومشهد جثث اطفال المدرسة الابتدائية وهي متناثرة في احد شوارع اقليم جوانجشو الصيني؟ه
لا اعلم حقا
ولكن كل ما اعرفه
اني لن انسى وجه إيهاب ابدا
ولن انسى ابدا ابدا ابتسامته المرتعدة
في ذلك اليوم البارد جدا
24 comments:
لا تعليق...
كل يبكي علي ليلاه
و لكن هل تعلمين يا قهوة رقيقه
ابتلي بأفة الأحساس من يبكي علي ليلاه و ليلات الأخرين مثلك
كان الله في عونك
أدرك جيدا ما تشعرين به ... كلنا علي حافة الأكتئاب ... كلنا.. أن لم نكن ميتين .. أو أشباه أموات لأن الأموات يستريحون قليلا مما نحن فيه
جرحتينى يا غاليه ... بجد جرحتينى .. و أتمنى أن ينجرح كل من له بقايا ضمير فى هذه البلد .. و أتسائل .. الا يشعر ابو و أم ايهاب بالبروده الآن ؟ ألا يتذكران فلذة كبد ألقياها فى العراء .. و السؤال الأهم و الأوضح ..ماهى العقوبه المناسبه لأب و أم كوالدى أيهاب ؟ ماحكم القانون و الشرائع اسماويه و القواعد الأخلاقيه على كائنين كهذا الأب و تلك الأم ؟؟
لا أستطيع تعويضك عن استنزاف رقتك فى الموضوع .. لكن أشكرك و لا أملك أكثر من ذلك
نحن لا نحس بتفاهة ألامنا إلا إذا تمعنا حقا في آلام آخرين لا ذنب لهم فيها
لا تعليق
سوى تحيه خالصه عن هذا البوست
اسمحي لي التنويه عن بوستك في مدونتي
انا مش فاهم حضرتك
دخلتى و علقتى
و دى حاجة فعلا اسعدتنى
انما
" اعتقد ان حلقة نقاش فكرة ممتازة جدا
في حال امكانية تطبيقها عمليا"
بدل ما تقوليلى انا موافقة
نبتدى نحضرهلها
اعرف كام واحد شغوف بالموضوع ده
و الحاجات دى تحبطينى
على العموم شكرا على مرورك
عرض الموضوع رائع جدا .. لكن الموضوع نفسه مؤلم جدا .. وليه أبعاد كتيرة تبدأ زي ما قال لاست كينج من مسؤلية الآباء وبعد كده تيجي مسؤولية المجتمع ثم الدولة .. الله يرحمها
واضح جدا إن الموضوع ده مافيش حد مهتم بيه علشان يحله .. وبيزيد كل يوم أكتر وأكتر .. وبالتالي أبشروا بالإنفجار القادم
أنا جيت من عند فريده
شئ مؤلم بجد ومحدش بيحل ولا فاضى يحل
كراكيب:
هي آفة الاحساس .. وليلات الاخرين
كم هي مزعجة ومؤلمة
ولكن في نهاية الامر لا يسعك الا تهمس سرا بساعدتك الخفية بذلك الاحساس وثقتك انك لن تستبدله بالعالم اجمع
----------------------------
الفارس الاخير:
ابو وام ايهاب زي الاف ويمكن ملايين غيرهم قهرهم الجوع والفقر فاصبحوا اكثر قسوة وعنف
الفقر والقهر يميتان القلوب احيانا
وفي النهاية كلنا مسؤولين بطريقة او باخرى
---------------------
فريدة:
اشكرك على الزيارة
واتفضلي نوهي زي ما انت ي عايزة
ده شرف ليا طبعا
-----------
يا مراكبي
فيه جهات قليلة جدا مهتمة بالموضوع ناوية ان شاء الله اعمل بوست قريب عنهم في الواضع هما اقل من 8 جمعيات على مستوى الجمهورية اكبرهم واهمهم على الاطلاق جمعية قرية الامل وفرع من فروع مؤسسة كاريتاس الخيرية
والباقي جمعيات صغيرة نشاطها محدود
--
بس المشكلة مش مشكلة حكومة وبس
المشكلة اكبر من كده بكتير
محمد عبد الغفار
حمد لله على السلامة
ومنور انت وكل اللي يجي من عند فريدة :)
فيه حلول ومحاولات صادقة لكنها قليلة جدا ومحتاجة تركيز واعلان وتنبيه ومساعدة
عزيزتى القهوة
يجب ان نخجل من انفسنا من ملابسنا من الدفىء الذى ننعم به من وجبة نطعمها ومن نقود ننفقها فى لا شىء يذكر وعلى الارض جوعى وعرايا
يا عزيزتى العدالة مفقودة على الارض وليس السبب ان مانح العدالة قد رفع الناس طبقات ولكن لان الناس تأبى ان تُبقى العدالة على الارض
تأبى ان تمنح حين تستطيع المنح
ما اسوء ان ترى احساس البرد فى ابتسامة ترتعش ولا تستطيع غير ان تدير ظهرك
احساس مرعب لا املك غير ان اقول حقا لا اظن صورة ايهاب سوف تفارق فكرك ولا القصة سوف تفارق عقلى
تحياتى
تعرفى
البرد أحيانا ما بيكونش فى الجو
البرد بيكون جوه فى قلوبنا
اللى أحيانا بتحتاج يوم ذى ده عشان ترجع تدفى تانى
عزيزتي
لا أعرف ماذا سأقول... لا، لا ، بل أظن أنني أعرف لكنني للأسف لا أستطيعأن أتحدث فقط لكي لا أجرح أحدا و خصوصا انت
آسفة
تحياتي
وجعتي قلبي بشدة, بيصعب علي جدا الناس اللي ظروفها هباب كده ونفسي ابقي بساعدهم لكن بخاف يكونوا بيضحكوا علي مافيش طريقه الواحد ممكن يساعد الناس بطريقة صح؟
بعد اذنك ادا سمحت
اضع لينك لمدونتك بمدونتي
كراكيب:
ما هي المشكلة انها ليست ليلاه وحده
انها ليلاتنا كلنا حتى وان كنا لا نعلم
هو ذنبنا بصورة أو بأخرى
هم ضحايا بفقرهم وقلة حيلتهم ومستقبلهم المظلم وطفولتهم المهدرة
ونحن مذنبون بصمتنا وعجزنا وراحتنا
توتا:
عندك كل الحق
نحن مذنبون فعلا براحتنا وتخازلنا وعجزنا
ولكن هل يمكن أن ننقذ العالم
او حتى نؤثر فيه ... الفكرة في حد ذاتها محبطة
----
وجع دماغ:
البرد فعلا كتير بيكون جوانا
احيانا جبال التلج بتتكون جوانا لدرجة انها بتخفي ملامحنا من جوا
----------------
مذكرات امرأة مثلية:
اشكرك على المرور واضافة المدونة
ولك الحرية لتقولي ما تشائين
------------
فانتوماس:
هو فيه طريقة طبعا
فيه جميعة اسمها (جمعية قرية الامل) لمساعدة أطفال الشوارع موجود منها فروع كتير جدا في مصر
الموقع بتاعها على الانترنت
http://www.egyhopevillage.com
تقدر تعرف خدماتهم كويس جدا واكتر
لو تقدر تتبرع بفلوس ممكن
واؤكد لك انها بتروح للي يستحقها وانا شفت ده بنفسي
او تسأل على العمل التطوعي معاهم
في القاهرة والاسكندرية
أجمل شيء
انه وسط زحمة السواقي
لسه في ناس بسيطة
زي ايهاب
بتقدر تبتسم رغم البرد
تفتكري نقدر نعمل حاجة
لأحلام الناس البسيطة
صباح الخير، الحقيقة أنا لسه صاحي حالا، وانا بعمل فنجان البن..افتكرت مدونتك اللطيفة..وافتكرت موضوع مؤجل نويت أقراه..جيت والفنجان في ايدي، لاقيت القهوة زحمة وكلها ضيوف جُمال بجد.
شدتني طريقة الكتابةالرقيقة والحساسة جدا..ووجعتني بجد فقرات إيهاب: فوتوغرافية..جارحة..ومؤلمة..بقدر ما كارثة أولاد الشوارع مؤلمة، ومش هقول أكثر من اللي قالوه أصدقائنا ع القهوة قبلي. أنا جاي بس أتضامن مع إيهاب، وأشرب القهوة عندك. وأحييكي ع المدونة
بالكاد أمسك تلك الدمعة قبل أن تبلل كلماتي
لا أجد ما أقوله
aboud
منور القهوة وياريت تكرر الزيارة.
والقهوة على حسابنا كمان
-----
zara
اكثر ما يوجعني هو انه ليس بامكاننا الكثير
دائما غمار البؤس اقوى
واحيانا انانيتنا تمنعنا من فعل اي شيء قد ينطوي على بعض تضحية
------
blueMagnifier
آسفة بشدة ان كانت كلماتي سببت قدر من الالم ... اوجعتني كتابتها ايضا
ويبدو انها لمست قلبا حساسا
تحياتي
اوجعتينى
بس مش عارف انا اتوجعت فعلا ولا بحاول احسس نفسى انى انسان وعندى مشاعر وكده
وكانى كده عملت حاجه يعنى لما اتوجعت
مش عارف اقول ايه
بكره محاكمة اسلام نبيه
شوف التفاصيل عندي
سلام
www.demaghmak.blogspot.com
Post a Comment