Wednesday, May 21, 2008

عن فاطمة.. عن ماري المجنونة .. عن بنايتنا أتحدث



وجه أبيض مستدير ..عينات عسليتان براقتان .. جسد مكتنز وممشوق في آن .هادئة جدا صوتها يقارب الهمس.. تحسبها تطير على الارض من خفتها .. لها اشراقة الملائكة احيانا ..


هكذا حكوا لي عنها .. أو كيف كانت .. ماري .. جارتي التي تقطن في الشقة التي تعلو شقتنا


كلما قصوا علي كيف كانت اشعر بالدهشة.. فما أراه الآن جد مختلف فماري التي أعرفها .. امرأة أربعينية نحيلة بصورة مرضية عيناها غائرتان نظراتها تائهة تسير كالسكارى مترنحة في الشارع .. واسمعها كل ليلة تهذي بكلمات غير مفهومة بصوت عال للغاية ثم تبدأ في فاصل من السباب الحاد المقزز لكائنات وهمية صرت أعرفهم الآن معرفة جيدة.


بدأت معرفتي بماري حينما انتقلنا إلى منزلنا الجديد. كانت جارتي العجوز تحذرني منها بشدة .. فهي كما تقول مجنونة. وحكى الجيران كل منهم حكاية مختلفة عن أذى ألحقته به ماري .. فتارة تمسك بتلابيب رجل تدعي انه غازلها وأخرى تضرب طفلا صغيرا بحجة انه لص وتارة أخرى تتشاجر مع جارة بحجة انها سبتها.


كنا نتجنبها كلما سمعنا صوتها تخرج من باب شقتها ..وحتى الآن ليس مستحبا أبدا أن تصادف ماري على السلم فلا أحد يعرف ما هي قادرة على فعله.

وما بين ماري التي حكوا لي عنها وماري التي أراها قصة فصولها اغضبتني واحزنتني جدا


كانت ماري قد أتمت لتوها دراسة الثانوية العامة والتحقت لتفوقها بكلية الصيدلة حينما بدأت تغيرات غريبة تطرأ على سلوكها. صارت أكثر انعزالا وكان هذا امرا طيبا لوالداها المتشددان. فلم يريدا لها أي خلطة بأحد. فقدت أدنى اهتمام بكل شيء. أهملت دراستها انعزلت عن الجميع ولكن ما أثار قلق والديها وشقيقيها حقا هو نوبات الخوف الحادة غير المبررة.

فما كان منهم إلا ان اصطحبوها لقس الكنيسة المجاورة لجلسات ارشاد وبركة وانتهى الامر. لم يستطع أحد تفسير التغير الحاد في سلوكها ونوبات الخوف الشديد ولكنهم قالوا انها ستكبر وتهدأ .. ربما حينما تتزوج

ولكن لم يكن الامر كذلك بالنسبة لها... ففي احدى الايام عادت من الجامعة لتقول للجميع ان اسمها فاطمة. ولم يفهم أحد الامر

هي فاطمة .. وليست ماري ابدا. وربما سر بعض اصدقائها في الجامعة والمحامي الذي ساعدها في قضية كادت تكسبها.. وربما جن جنون اسرتها وكادوا ينهارون حزنا ... ولكن لم يفهم احد الامر


كانت تؤكد للجميع .. انها فاطمة وليست ماري .. بل لم تكن أبدا ماري ...ا

وبدأت التفاصيل تتكشف في هدوء .. كانت تقول انها فاطمة وانها ابنة الدكتور (م . ع) في كلية الصيدلة وان والديها الحاليين سرقاها من والدها الحقيقي. ارتدت الحجاب.. وأقامت دعوى اثبات نسب ضد الدكتور وكادت تهدم أسرته لولا شقيقها الذي ارتاب في احتمال مرضها.


واكتشف الجميع أخيرا انها كانت مصابة بفصام حاد في الشخصية لم تعالجه البركة ولا الصلوات المستمرة والنوايا الطيبة


واليوم بعد أكثر من 20 عاما رحل الاب والام وهاجر الاشقاء ومازالت ماري (التي صارت مقتنعة الان بانها ماري) تعيش وحيدة في شقتها ولكنها الآن تتحدث دائما عن زيارة البابا شنودة إلى منزلها ومحاولاته الدائمة لافساد مسيحيتها وانه شريك في مؤامرة ضدها. تماما مثل ذلك المسؤول الكبير في الدولة الذي يشارك في مؤامرة كبيرة لدفعها للجنون


وكل ليلة يمكنك أن تسمع صوتها تتشاجر مع امرأة ورجلين كل ليلة ... تصرخ وتسب وتلعن ..بكل ما اوتيت من قوة .. كانت تخرج كل صباح تسير بخطوات بطيئة للغاية في عدد محدد من الشوارع ولكن الآن قلت حركتها بسبب ضعف بصرها. تصاب بحالات وهن مفاجئ فلا تستطيع حتى ان تهبط درجات السلم. ولكنها تمنع أي إنسان من دخول شقتها منذ 20 عاما.. لم تطأ قدم بشر تلك الشقة .. ويقول بعض من شاهدها من النوافذ ان جدرانها مغطاة بمادة سوداء بينما تصل أكوام الأوراق والصحف حتى السقف ...


اتوقع ان تنتهي قصتها بكارثة .. قد تصيب بنايتنا بأكملها ..فكثيرا ما أفكر ماذا لو قررت صنع كوب من الشاي أو اشعال بعض الاوراق للتدفئة ؟!!! وربما ستموت في احد الايام وتبقى جثتها لاسابيع قبل ان تضطر الشرطة لكسر باب شقتها. فاتحت أمي بضرورة ابلاغ السلطات بوجود مريض عقلي دون رعاية في بنايتنا ولكن الجميع يرفضون التدخل تجنبا للمسؤولية.ا

12 comments:

African Doctor said...

وصفك مؤلم لحالتها
كم مريضاً نفسياً بلا رعاية يختبيء خلف جدران البيوت القديمة و الجهل و الإنكار؟
تدوينة جميلة

م said...

أحب جدا كتاباتك الانسانيه او الادبيه
للأسف أنا شفت حالات شيزوفرينيا قبل كده من خلال الدراسه
هم بؤساء بالفعل
وفرصة الشفاء اعتقد معدومه
وبالفعل مع بؤسهم يشكلون خطرا على أنفسهم وعلى المحيطين
قد تقتل مارى نفسها
وقد تقتل شخصا اخر فى لحظه
تسيطر عليهم الضلالات بصفه مستمره
يعتقدون مثلا ان هناك من يراقبهم طول الوقت
وهتاك من يريد قتلهم
بعضهم يتخيل نفسه نبيا من الانبياء
او شخصا مشهورا
ولا تفلح المحاولات لاقناعه بالعكس
يرون اشخاصا ويسمعون اصواتا غير موجوده
ان استطعى مساعدتها للدخول الى احدى المستشفيات يمكن حالتها تتحسن شويه

وجهة نظري said...

أضحك عليكي لو قولت أنا فهمت حاجه من التدوينه دي

هيا فاطمه والا ماري؟ وإيه إلي دخلها في القصه دي؟

هل هي وقعت في مصيدة تغيير الأديان؟ هل نجحت هجمه عليها هيا مفهميتهاش وبقت ضحيه؟

ليه ماري وليه فاطمه؟ ليه مش دعاء؟

lastknight said...

قبل فصامها كان فصام مجتمع جائر لا يفهم ألا لغة القهر .. مجتمع يدعى الأمن و السلام و السماحه .. و كل من فيه واقعون تحت ضغوط مرعبه .. فالمحجبه مضغوطه من المنقبه و السافره مضغوط عليها من المحجبات ..و المسيحيون عموما مضغوط عليهم من أغلبية الأغلبيه .. من يميزون بين البشر بالعرق أو الجنس أو الدين .. فصامها سيدتى هو فصام مجتع كامل . لكن يبدو أن تفوقها و رهافة أحساسها كانا سببا أساسيا فى انفجار الضغط داخلها .. فصارت ألى ماصارت أليه .. لا هى مارى المحبوبه .. لا فاطمه التائهه اللقيطه ( كما تخيلت ) ولا هى أى أحد .. مجرد كيان صار خطرا على المجتمع .. بعد قهره المجتمع
أشعر بها لأنى أربعينى أيضا .. و عاصرت فى الجامعه ما عاصرته مارى .. رغم أنى مسلم

م said...

انا نسيت اقولك انى معترض بس على وصف مارى بالمجنونه
هذا والسلام عليكم

عدى النهار said...

ربنا يلطف بها. شىء محزن إن إنسان حياته تتدمر بهذاالشكل بسبب غياب وعي المحيطين به.. المجتمع كله فى الواقع

أعتقد إن الصواب هو عمل شىء ما يحميها ويحمى من حولها من أذى محتمل جداً. لو فى أى وسيلة للإتصال بشقيقيها أو أى من أهلها لتحمل مسؤليتهم تجاهها

The Son of Man said...

منذ عشرون سنة لم تصب بسوء لاتخافى منها واتركى الامر لمن بيدية الامر .المهم انك متخافيش

bluestone said...

الطبيب الافريقي:
هي فعلا في حالة مؤلمة للغاية
اعتقد ان اسوأ ما في بعض انواع الامراض العقلية ان المريض مش بيكسب تعاطف الناس

ربما خوفهم او اشمئزازهم
لكن مش تعاطفهم

==================================
دكتور محمد:
اشكرك يا سيدي
وانا عارفة رأيك في كتاباتي التانية !!!
:)

مش عارفة ايه الاجراء القانوني المتبع في الحالة دي ؟؟ خاصة وان مفيش أهل ليها

هل نبلغ الشرطة
ولا مستشفى الامراض العقلية

خاصة واني لعلمي بحالة مستشفى الامراض العقلية
ضميري مش هيشجعني على كده

bluestone said...

وجهة نظره:
انت مافهمتش .. تحب اشرحلك
التعليقات اللي قبليك موضحة

هي ماري
وفاطمة لبعض الوقت

لا لا هي وقعت في مصيدة المرض العقلي والجهل

اما ليه مش دعاء ؟؟
مش عارفة ايه السؤال ده ..
عشان هي مش دعاء فعلا
===============================
LAST KNIGHT:
لغة القهر .. لغة نجيدها جدا
والضغوط الهائلة اللي بيتعرض ليها البني آدم بدون وسيلة وقاية لتحملها

م said...

رأيى فى كتاباتك التانيه زى الفل
:)
فيه فى كل المستشفيات الجامعيه اقسام للطب النفسى
مش لازم مستشفى العباسيه
ومجانى برضه

Moon-baby said...

المتني القصة جدا..والمني اكثر اهمال اشقائها...فكيف ينامون و اختهم مريضة مسلوبة العقل و قد تؤذي نفسها او غيرها..او فد تموت و لن يعرف احد الا حينما يشتمون تلك الرائحة الكريهة


"لم يستطع أحد تفسير التغير الحاد في سلوكها ونوبات الخوف الشديد ولكنهم قالوا انها ستكبر وتهدأ .. ربما حينما تتزوج" <<< اهو ده التخلف بعينه!! مش عارفة ليه المصريين فاكرين ان الزواج هو المفتاح السحري لحل جميع مشاكل المراة!! و ربما رفض اهلها الاعتراف اصلا بانها مريضة و تحتاج الي علاج
a la "everything will be fine"

ربنا يرحمها و يخفف عنها

و اخيرا؛اعجبني سردك الذي جذبني الي النهاية

Thanks for sharing.That was really touching :)

Dr. Ahmed Wagih said...

قصة مؤلمة؛ ياريت يكون فيه طريقة للجيران انهم يتقربوا اليها شوية شوية ويدخلوها في حياتهم ويحسسوها انهم اهلها، يمكن ده يكون بداية لأقناعها بالعلاج النفسي