Tuesday, January 19, 2010

دون وجه حق

ليس ثمة عار في الأمر .. ليس ثمة عار
تلك هي الكلمات الأولى التي تبادرت لذهني وانا على سلم سيارة الترحيلات او كما وصفها صديق عزيز (اوتوبيس رحلات الداخلية)ا
لا ادري ان كان من المفترض ان أكتب شهادتي عما رأيت .. وأي قيمة ستكون لمثل هذه الشهادة لذلك لن أكتب شهادتي "للتاريخ" ولا لغيره ولكني اسجل بعض الانطباعات الشخصية والتفاصيل كما رأيتها حتى لا أنسى
أذكر انه حينما علمت بترتيب السفر الي نجع حمادي لتقديم واجب العزاء فكرت بان الأمر يتعدى مجرد فكرة السفر والقيام بأمر إنساني "طيب"، شعرت انه من الواجب أن أكون هناك .. أن اقترب من موقع الألم والجرح بدلا من الكلام عنه طوال الوقت. منذ بدأت مبادرة مصارحة ومصالحة وربما قبلها وانا من المهتمين اهتماما وهما بما يحدث من شأن المسلمين والاقباط في مصر، واليوم هو المرة الأولى التي ستتاح لي فرصة لان اقترب، ألمس موضع الألم، عله يلهمني ببعض اسباب الشفاء
ترددت قليلا ربما نظرا لعدد ساعات السفر التي قيل انها تتعدى ال8 ساعات وتفاصيل السفر المتعبة حيث نسافر ليلا لنصل نجع حمادي صباح اليوم التالي حسبما هو مقرر. وانا التي اعتدت كما قالت صديقة ان اشرب كوب القهوة ب30 جنيه كناية عن رفاهية سخيفة. لمت نفسي ووبختها على تنعم لا تستحقه بينما ينبغي عليها ان تفعل ما تقول .. وإلا صارت كالواعظ الفاسد
كل ما كنت اعرفه عن نجع حمادي هو ما تعملناه في المدرسة انها أرض قصب السكر وقلب الصعيد. لم أذهب إلى نجع حمادي من قبل ولم أذهب إليها هذه المرة أيضا.. فبمجرد خروجنا من محطة القطار حتى انشقت الأرض عن جموع من جنود المدججين بالسلاح. ثم سيارات محملة برجال في ملابس مدنية .. ثم رجال اخرون منتفخو الاجسام تبدو عليهم الهيبة .. كل هؤلاء احاطوا بنا من كل جانب .. في البداية اعتقدت ان هناك هجوما ما .. ولكن ما أن بدأ رجالا في ملابس مدنية يقتادونا الي سيارات الترحيلات الزرقاء الكبيرة الكئيبة ... حتى أدركت أن ذلك الجيش المصغر كان يستهدفنا نحن. كنت لتوي اتحدث مع صديق اخبره بأننا وصلنا بسلام..فأنهيت المكالمة باننا في طريقنا لسيارة الترحيلات. ليست ثمة عار .. لم أفكر بأي شيء آخر.. ولغرابة الأمر لم أفكر ماذا سيحدث لي أو كيف سينتهي الموقف الغريب .. فقد كانت أقسى واقصى تخميناتي أنه سيتم نقلنا لمكان بعيد عن المسيرة الشعبية حتى تنتهي ثم يعيدوننا مرة أخرى لمحطة القطار
تعامل معنا الرجال ذوو الملابس المدنية بحدة واضحة غير مبررة. أذكر أحدهم صرخ في وجهي (جايين تعملوا ايه؟ فقلت: جايين لحضور احتفال شعبي وتقديم واجب العزاء؟ فصرخ: عزاء؟؟ جايين تبوظوا البلد؟)
تم نقلنا إلى مكان آخر حيث أخذوا هواتفنا المحمولة والاوراق الثبوتية من بطاقات شخصية وغيرها. ووقفنا داخل سور بشري من جنود .. بادلونا بعض الابتسامات مما خفف وطأة غيمة اختطافنا بلا سبب من الشارع. ولكن سرعان ما عنفهم احد الكبار ذوو الملابس المدنية آمرا إياهم بعدم التحدث معنا. تكومنا بجوار سور المبنى ثم تم فصلنا لتستقل الفتيات عربة والشباب أخرى في الطريق الي مجهول. لا يجيب أحد أي سؤال تسأله .. فكلما سأل احدنا (من حقي اعرف رايح فين) كان الاجابة (مشوار معانا وهتمشي على طول).ا
ولم يكن أينا يتخيل اننا في طريقنا لقنا حيث احتجزنا في زنزانة لمدة 13 ساعة دون ان يكلف أي شخص عناء تبرير الموقف ان حتى اتهامنا بأي شيء
13 ساعة كاملة قضيناها في غرفة باردة كئيبة بها أربع دكك من الخشب وحمام قذر ونوافذ حقيرة لا ينفذ منها ضوء السماء الذي أشك انه يقبل ان يدخل من تلك البوابات ابواب حديدية صدئة، وجوه عنيفة شرسة هي كل ما استقبلنا في ذلك المبنى اللهم من رجل ذو ملابس عسكرية حاول تخفيف وطأة الحدث ببعض التسهيلات
13 ساعة مرت كالدهر .. كالموت.. لا يعرف اينا مصيره ولا يعرف احدنا الآخر. ها أنا في غرفة كئيبة مظلمة يحيط بي الغرباء ويفتك بي شعور الاحتجاز والعجز والظلم، ذاك الأخير الذي يمكنه ان يفتك بقلب اقوى الأقوياء. حينها فقط بدأت أدرك ان الامر ليس صدفة سيئة ولا خطأ سيقوم أحدهم بالاعتذار عنه لاحقا
بدأ الغرباء في اختبار بعضهم البعض .. بينما خيم الوقت كغيمة ثقيلة فوق قلوب الجميع ..
الوقت لا يمر .. ت
الوقت لا يمر .. ه
الوقت لا يمر
أذكر ان بكيت كثيرا ظلما وليس خوفا. كنت على يقين ايماني أن أذى لن يصيبني .. فقط كانت أمي هي كل ما دار برأسي .. توفي والدي قبل أيام، فأي حماقة أصابتني لازيد من ألامها. توالت الوعود والمكالمات الهاتفية من هاتف نجحت احداهن في تسريبه .. بلا طائل.. فقط عرفنا ان العالم الخارجي الذي صرنا فجأة كيانا منفصلا عنه يعرف بنا وان شخص ما في مكان ما يفعل شئ ما لاجلنا لعجزنا التام عن فعل اي شئ سوى الصراخ على آذان أصابها صمم الأوامر
الجو يزداد برودة لم تفلح ملابسنا القاهرية الثقيلة في مواجهة برودة قلب الصعيد وقلوب من قابلنا من رجاله. واعلن الجميع اضرابا عن الطعام. لم يكن عملا منظما ، فقط فإن الطعام من الامور التي تفقد معناها في مكان كهذا. تذهب أولا الكرامة ثم الحرية يتبعهما الرغبة في الاستمرار والمتمثلة في الأكل والشرب. بدا أن كل شيء يقدمونه لنا مغلفا بالظلم فصار طعمه علقما لا يحتمل. جدران الزنزانة صارت مدونة للوجع .. يمكنك بسهولة ان تقرأ حال من مروا قبلك (السجن مقبرة الأحياء) أحد الامثلة .. وغيرها
أبلغنا في الثامنة مساء بانه سيتم نقلنا للتحقيق .. فهناك محضر وقضية .. وبدأنا ندرك ببطئ ان هناك شيء ما كان يحاك ضدنا لسبب أجهله . انتقلنا إلى مقر نيابة قنا لمواجهة بقعة الضوء الوحيدة داخل النيابة التي عاملنا رجالها بعدل واضح كان ألطف وأعظم من أي حسن معاملة متعمد.. فقط عاملونا بعدل.. وكفى
قصصنا على الرجل كل قصتنا واثارت الاتهامات ضحكنا الشحيح الذي خرج في صورة ابتسامات مُرة بترها التعب. أبدى الرجل تفهما للوضع كما لو كان معتادا على مثل هذه الامور. وأقسم لنا ألا نقلق فعودتنا لمنازلنا لن تستغرق وقتا. انتظرنا دقائق بدت هي الاخرى طويلة كدهر حتى علمنا باننا سنضطر لقضاء الليلة رهن الاحتجاز في نفس المكان حتى نعرض في اليوم التالي على النيابة لمواجهة من قام بتلفيق سلسلة الاتهامات المضحكة بحقنا. انتاب الجميع حالة هيستريا جماعية ...رفضنا التحرك من المكان الوحيد الذي عوملنا بعدل فيه.. تجمع حولنا عدد كبير من العسكر ورجال الملابس المدنية محاولين حثنا على التحرك والعودة
ولكن فشلوا وفشلت اكاذيبهم جميعا حتى تمكن دكتور اسامة الغزالي حرب أحد الوجوه الصديقة في المحنة في التفاوض لنقلنا مستشفى عام ليتم احتجازنا هناك بينما نتحرك طول الوقت داخل سجن بشري متحرك .. سور بشري يتحرك أينما تحركنا. تعبت من سؤال الجميع لما انا هنا؟ ما الذي فعلته؟ ما هي التهمة الموجهة لي؟ هل العزاء تهمة؟ هل السفر جريمة؟ هل في المواساة مخالفة للقانون؟ ا
لم اتحمل كثيرا ووجدت في فقدان الوعي حلا لفك ارتباط بوعي فاسد وواقع مجحف. أمي لا تغادر رأسي.. واشعر بحنين جارف لوالدي .. وبعجز قاتل
لا يدرك أحد ما الذي تعنيه كلمة مجردة كالحرية إلا حينما يفقدها ولو لساعات قليلة
حينما يتعلق مصيرك بأيدي من لا تعرفهم ، يقف بينك وبين حريتك وحقوقك من لا تعرفهم ولا تعرف سببا لما يفعلونه بك
لا تدرك قيمة وجه صديق إلا حينما يحيط بك الغرباء من كل جانب ..ا
لن تدرك قيمة العدل إلا حينما يقع عليك ظلم..ا
لن تعلم قيمة الانسانية إلا حينما ترى بشرا وقد تجردوا منها حتى بدت ارواحهم كثقوب سوداء
أذكر جيدا::ا
ضابط الشرطة الشاب المؤدب الذي لم يكن له شاغل سوى أن يؤكد لنا ان هناك رجال شرطة شرفاء وعادلون ولكنهم قلة
مأمور قسم قنا الذي تعاطف معنا لاننا شكلنا "ولاد ناس" وتسائل "ايه اللي جابكوا هنا بس؟" ا
الضابط الذي كرر اكثر من مرة أمامنا (اننا في دولة نظام وليست دولة قانون) شئنا أم أبينا تلك هي الحقيقة
الوجوه الطيبة التي لولاها لتضاعف الأذى والمحبة المجانية مقابل الكراهية المجانية ايضا
======================
هذا بعض مما أردت قوله .. وما اسميها شهادتي